الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}. قوله تعالى {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} أي بما آمنتم به، وكذلك كان يقرؤها ابن عباس، والمثل صلة كقوله تعالى: "ليس كمثله شيء" أي ليس هو كشيء، وقيل: معناه فإن آمنوا بجميع ما آمنتم به أي أتوا بإيمان كإيمانكم وتوحيد كتوحيدكم، وقيل: معناه فإن آمنوا مثل ما أمنتم به والباء زائدة كقوله تعالى: "وهزي إليك بجذع النخلة" (25- مريم) وقال أبو معاذ النحوي: معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم، {فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي في خلاف ومنازعة قاله: ابن عباس وعطاء ويقال: شاق مشاقة إذا خالف كأن كل واحد آخذ في شق غير شق صاحبه، قال الله تعالى: "لا يجرمنكم شقاقي" (89- هود) أي خلافي، وقيل: في عداوة، دليله: قوله تعالى: "ذلك بأنهم شاقوا الله" (13- الأنفال) أي عادوا الله {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} يا محمد أي يكفيك شر اليهود والنصارى وقد كفى بإجلاء بني النضير، وقتل بني قريظة وضرب الجزية على اليهود والنصارى {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيم} بأحوالهم.
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}. قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} قال ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة والحسن: دين الله، وإنما سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب، وقيل لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه، كالصبغ يلزم الثوب، وقال مجاهد: فطرة الله، وهو قريب من الأول، وقيل: سنة الله، وقيل: أراد به الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم، قال ابن عباس هي أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودي وصبغوه به ليطهروه بذلك الماء مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانيا حقا فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى، وهو نصب على الإغراء يعني الزموا دين الله، قال الأخفش هي بدل من قوله ملة إبراهيم {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} دينا وقيل: تطهيرا {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} مطيعون. {قُل} يا محمد لليهود والنصارى {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} أي في دين الله والمحاجة: المجادلة في الله لإظهار الحجة، وذلك بأنهم قالوا إن الأنبياء كانوا منا وعلى ديننا، وديننا أقوم فنحن أولى بالله منكم فقال الله تعالى: قل أتحاجوننا في الله {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي نحن وأنتم سواء في الله فإنه ربنا وربكم {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لكل واحد جزاء عمله، فكيف تدعون أنكم أولى بالله {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} وأنتم به مشركون. قال سعيد بن جبير: الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله فلا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله قال الفضيل: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} يعني: أتقولون، صيغة استفهام ومعناه التوبيخ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالتاء لقوله تعالى: {قل أتحاجوننا في الله} وقال بعده {قل أأنتم أعلم أم الله} وقرأ الآخرون بالياء يعني يقول اليهود والنصارى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ} يا محمد {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} بدينهم {أَمِ اللَّهُ} وقد أخبر الله تعالى أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ} أخفى {شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} وهي علمهم بأن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين وأن محمدا صلى الله عليه وسلم حق ورسول أشهدهم الله عليه في كتبهم {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كرره تأكيدا. قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} الجهال {مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ} صرفهم وحولهم {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يعني بيت المقدس والقبلة فعلة من المقابلة نزلت في اليهود ومشركي مكة طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة، فقالوا لمشركي مكة: قد تردد على محمد أمره فاشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم فقال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} له والخلق عبيده. {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} نزلت في رؤساء اليهود، قالوا لمعاذ بن جبل: ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء، ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس، فقال معاذ: إنا على حق وعدل فأنزل الله تعالى: {وَكَذَلِك} أي وهكذا، وقيل: الكاف للتشبيه أي كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} مردودة على قوله: "ولقد اصطفيناه في الدنيا" (103- البقرة) أي عدلا خيارا قال الله تعالى: "قال أوسطهم" (28- القلم) أي خيرهم وأعدلهم وخير الأشياء أوسطها، وقال الكلبي يعني أهل دين وسط بين الغلو والتقصير لأنهما مذمومان في الدين. وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو معشر إبراهيم بن محمد بن الحسين الوراق أنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى أنا أبو الصلت أنا حماد بن زيد أنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد العصر فما ترك شيئا إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل وأطراف الحيطان، قال: "أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا، ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأخيرها وأكرمها على الله تعالى". قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم، قال ابن جريج: قلت لعطاء، ما معنى قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس؟ قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على من يترك الحق من الناس أجمعين {وَيَكُونَ الرَّسُولُ} محمد صلى الله عليه وسلم {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} معدلا مزكيا لكم، وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم الماضية: "ألم يأتكم نذير" (8- الملك) فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيسأل الله الأنبياء عليهم السلام عن ذلك فيقولون: كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة- وهو أعلم بهم- إقامة للحجة، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا، فتقول الأمم الماضية: من أين علموا وإنما أتوا بعدنا؟ فيسأل هذه الأمة فيقولون أرسلت إلينا رسولا وأنزلت عليه كتابا، أخبرتنا فيه تبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت، ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحاق بن منصور أخبرنا أبو أسامة قال الأعمش أخبرنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فيسأل أمته هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقال: من شهودك فيقول محمد وأمته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فيجاء بكم فتشهدون" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} أي تحويلها يعني بيت المقدس، فيكون من باب حذف المضاف، ويحتمل أن يكون المفعول الثاني للجعل محذوفا، على تقدير وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة، وقيل معناه التي أنت عليها، وهي الكعبة كقوله تعالى "كنتم خير أمة" أي أنتم. {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} فإن قيل ما معنى قوله: "إلا لنعلم" وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها قيل: أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب، إنما يتعلق بما يوجد معناه ليعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب، وقيل: إلا لنعلم أي: لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} فيرتد وفي الحديث إن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه، وقال أهل المعاني: معناه إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه كأنه سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة قوم، وقد يأتي لفظ الاستقبال بمعنى الماضي كما قال الله تعالى "فلم تقتلون أنبياء الله" (91- البقرة) أي فلم قتلتموهم {وَإِنْ كَانَتْ} أي قد كانت أي تولية الكعبة وقيل: الكتابة راجعة إلى القبلة، وقيل: إلى الكعبة قال الزجاج: وإن كانت التحويلة {لَكَبِيرَة} ثقيلة شديدة {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي هداهم الله، قال سيبويه: "وإن" تأكيد يشبه اليمين ولذلك دخلت اللام في جوابها {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هدى فقد تحولتم عنها وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة، فقال المسلمون إنما الهدى ما أمر الله به، والضلالة ما نهى الله عنه. قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة، وكانوا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} قرأ أهل الحجاز وابن عامر وحفص لرءوف مشبع على وزن فعول، لأن أكثر أسماء الله تعالى على فعول وفعيل، كالغفور والشكور والرحيم والكريم وغيرها، وأبو جعفر يلين الهمزة وقرأ الآخرون بالاختلاس على وزن فعل قال جرير: ترى للمسلمين عليك حقا *** كفعل الواحد الرءوف الرحيم والرأفة أشد الرحمة.
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}. قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في المعنى فإنها رأس القصة، وأمر القبلة أول ما نسخ من أمور الشرع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة فصلى بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وقال مجاهد: كان يحب ذلك لأجل اليهود لأنهم كانوا يقولون يخالفنا محمد صلى الله عليه وسلم في ديننا ويتبع قبلتنا، فقال لجبريل عليه السلام: وددت لو حولني الله إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم عليه السلام، فقال جبريل: إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك، فسل أنت ربك فإنك عند الله عز وجل بمكان فرجع جبريل عليه السلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة فأنزل الله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} فلنحولنك إلى قبلة {تَرْضَاهَا} أي تحبها وتهواها {فول} أي حول {وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي نحوه وأراد به الكعبة والحرام المحرم {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ} من بر أو بحر أو شرق أو غرب {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} عند الصلاة. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحاق بن نصر أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما: قال لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة. أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن خالد أخبرنا زهير أخبرنا أبو إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد قباء وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل المقدس لأنه قبلة أهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، وقال: البراء في حديثه هذا: أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم}. وكان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، قال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وقيل: كان التحويل خارج الصلاة بين الصلاتين، وأهل قباء وصل إليهم الخبر في صلاة الصبح. أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي السامري أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري عن مالك بن أنس عن عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر قال: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت وقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. فلما تحولت القبلة قالت اليهود: يا محمد ما هو إلا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره؟ فأنزل الله {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يعني أمر الكعبة {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} ثم هددهم فقال {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء قال ابن عباس يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم وقرأ الباقون بالياء يعني ما أنا بغافل عما يفعل اليهود فأجازيهم في الدنيا والآخرة.
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}. قوله تعالى {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى قالوا: ائتنا بآية على ما تقول فقال الله تعالى {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} معجزة {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} يعني الكعبة {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} لأن اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب والنصارى تستقبل المشرق وقبلة المسلمين الكعبة. أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي أخبرنا الحسن بن بكر المروزي أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخزومي عن عثمان الأخنسي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القبلة ما بين المشرق والمغرب" وأراد به في حق أهل المشرق، وأراد بالمشرق: مشرق الشتاء في أقصر يوم في السنة، وبالمغرب: مغرب الصيف في أطول يوم من السنة، فمن جعل مغرب الصيف في هذا الوقت على يمينه ومشرق الشتاء على يساره كان وجهه إلى القبلة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} مرادهم الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به الأمة، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} الحق في القبلة، {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)}. قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه {يَعْرِفُونَه} يعني يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} من بين الصبيان، قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن سلام إن الله قد أنزل على نبيه {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} فكيف هذه المعرفة؟ قال عبد الله: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما عرفت ابني ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد من معرفتي بابني، فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال أشهد إنه رسول الله حق من الله تعالى وقد نعته الله في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقال عمر وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ثم قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي هذا الحق خبر مبتدأ مضمر وقيل رفع بإضمار فعل أي جاءك الحق من ربك {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين. قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} أي لأهل كل ملة قبلة والوجهة اسم للمتوجه إليه {هُوَ مُوَلِّيهَا} أي مستقبلها ومقبل إليها يقال: وليته ووليت إليه: إذا أقبلت إليه، ووليت عنه إذا أدبرت عنه. قال مجاهد: هو موليها وجهه، وقال الأخفش، هو كناية عن الله عز وجل يعني الله مولي الأمم إلى قبلتهم وقرأ ابن عامر: مولاها، أي: المستقبل مصروف إليها {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي إلى الخيرات، يريد: بادروا بالطاعات، والمراد المبادرة إلى القبول {أَيْنَمَا تَكُونُوا} أنتم وأهل الكتاب {يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قوله تعالى {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. قرأ أبو عمرو بالياء والباقون بالتاء.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}. {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وإنما كرر لتأكيد النسخ {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} اختلفوا في تأويل هذه الآية ووجه قوله {إِلا} فقال بعضهم: معناه حولت القبلة إلى الكعبة {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} إذا توجهتم إلى غيرها فيقولون ليست لكم قبلة {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} قريش واليهود فأما قريش فتقول رجع محمد إلى الكعبة، لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة آبائه، فكذلك يرجع إلى ديننا، وأما اليهود فتقول لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حق إلا أنه يعمل برأيه وقال قوم {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} يعني اليهود وكانت حجتهم على طريق المخاصمة على المؤمنين في صلاتهم إلى بيت المقدس أنهم كانوا يقولون ما درى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن. وقوله {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} مشركو مكة، وحجتهم: أنهم قالوا- لما صرفت قبلتهم إلى الكعبة إن محمدا قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا، وهذا معنى قول مجاهد وعطاء وقتادة، وعلى هذين التأويلين يكون الاستثناء صحيحا، وقوله {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} يعني لا حجة لأحد عليكم إلا لمشركي قريش فإنهم يحاجونكم فيجادلونكم ويخاصمونكم بالباطل والظلم والاحتجاج بالباطل يسمى حجة كما قال الله تعالى "حجتهم داحضة عند ربهم" (16- الشورى) وموضع {الَّذِين} خفض كأنه قال سوى الذين ظلموا قاله الكسائي وقال الفراء نصب بالاستثناء. قوله تعالى: {مِنْهُم} يعني من الناس وقيل هذا استثناء منقطع عن الكلام الأول، معناه ولكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل، كما قال الله تعالى "ما لهم به من علم إلا اتباع الظن" (157- النساء) يعني لكن يتبعون الظن فهو كقول الرجل مالك عندي حق إلا أن تظلم. قال أبو روق {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ} يعني اليهود {عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} وذلك أنهم عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم ووجدوا في التوراة أن محمدا سيحول إليها فحوله الله تعالى لئلا يكون لهم حجة فيقولون: إن النبي الذي نجده في كتابنا سيحول إليها ولم تحول أنت، فلما حول إليها ذهبت حجتهم {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} يعني إلا أن يظلموا فيكتموا ما عرفوا من الحق. وقال أبو عبيدة قوله {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} ليس باستثناء ولكن "إلا" في موضع واو العطف يعني: والذين ظلموا أيضا لا يكون لهم حجة كما قال الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان معناه والفرقدان أيضا يتفرقان، فمعنى الآية فتوجهوا إلى الكعبة {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ} يعني اليهود {عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} فيقولوا لم تركتم الكعبة وهي قبلة إبراهيم وأنتم على دينه ولا الذين ظلموا وهم مشركو مكة فيقولون لم ترك محمد قبلة جده وتحول عنها إلى قبلة اليهود {فَلا تَخْشَوْهُمْ} في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم بالمجادلة فإني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة {وَاخْشَوْنِي وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} عطف على قوله {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم فتتم لكم الملة الحنيفية، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام. قال: سعيد بن جبير لا يتم نعمة على مسلم إلا أن يدخله الله الجنة {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا من الضلالة ولعل وعسى من الله واجب.
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}. قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} هذه الكاف للتشبيه وتحتاج إلى شيء يرجع إليه فقال بعضهم: ترجع إلى ما قبلها معناه ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا فيكم رسولا قال محمد بن جرير: دعا إبراهيم عليه السلام بدعوتين- إحداهما- قال: "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" (128- البقرة) والثانية قوله: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" (129- البقرة) فبعث الله الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ووعد إجابة الدعوة الثانية بأن يجعل في ذريته أمة مسلمة، يعني كما أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع الملة الحنيفية وقال مجاهد وعطاء والكلبي: هي متعلقة بما بعدها وهو قوله "فاذكروني أذكركم" معناه كما أرسلنا فيكم رسولا منكم فاذكروني وهذه الآية خطاب لأهل مكة والعرب يعني كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب. {رَسُولا مِنْكُمْ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} يعني القرآن {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} قيل: الحكمة السنة، وقيل: مواعظ القرآن {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} الأحكام وشرائع الإسلام
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)}. {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قال ابن عباس: اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي، وقال سعيد بن جبير اذكروني في النعمة والرخاء، أذكركم في الشدة والبلاء، بيانه "فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" (144- الصافات). أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمر بن حفص أخبرنا أبي أخبرنا الأعمش قال سمعت أبا صالح عن أبي هريرة قال قال: النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد بن القاضي وثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أخبرنا أبو عبد الملك الدمشقي أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن أخبرنا منذر بن زياد عن صخر بن جويرية عن الحسن عن أنس قال: إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد أناملي هذه العشر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم، وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن مشيت إلي هرولت إليك، وإن هرولت إلي سعيت إليك، وإن سألتني أعطيتك، وإن لم تسألني غضبت عليك". أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا يحيى بن عبد الله أخبرنا الأوزاعي أخبرنا إسماعيل بن عبد الله عن أبي الدرداء عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا إسماعيل بن عياش أخبرنا عمرو بن قيس السكوني عن عبد الله بن بسر قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله تعالى". قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} يعني واشكروا لي بالطاعة ولا تكفروني بالمعصية فإن من أطاع الله فقد شكره ومن عصاه فقد كفره.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالعون والنصرة {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} نزلت في قتلى بدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار كان الناس يقولون لمن يقتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها فأنزل الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} كما قال في شهداء أحد "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" (169- آل عمران) قال الحسن إن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية فيصل إليهم الوجع.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}. قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} أي ولنختبرنكم يا أمة محمد، واللام لجواب القسم تقديره والله لنبلونكم والابتلاء من الله لإظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئا لم يكن عالما به {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} قال ابن عباس يعني خوف العدو {وَالْجُوعِ} يعني القحط {وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ} بالخسران والهلاك {وَالأنْفُسِ} يعني بالقتل والموت وقيل بالمرض والشيب {وَالثَّمَرَاتِ} يعني الجوائح في الثمار وحكي عن الشافعي أنه قال الخوف خوف الله تعالى، والجوع صيام رمضان، ونقص من الأموال أداء الزكاة والصدقات، والأنفس الأمراض، والثمرات موت الأولاد لأن ولد الرجل ثمرة قلبه. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا الحسن بن موسى أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال دفنت ابني سنانا وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني فقال: ألا أبشرك؟: حدثني الضحاك عن عرزب عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟ قالوا نعم، قال أقبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا نعم، قال فماذا قال عبدي؟ قالوا استرجع وحمدك قال: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد" {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} على البلايا والرزايا، ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} عبيدا وملكا {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} في الآخرة. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا محاضر بن المورع أخبرنا سعد عن عمر بن كثير بن أفلح أخبرنا مولى أم سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مصيبة تصيب عبدا فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها" قالت أم سلمة لما توفي أبو سلمة عزم الله لي فقلت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها. فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال سعيد بن جبير: ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام ألا تسمع لقوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام "يا أسفى على يوسف" (84- يوسف) {أُولَئِكَ} أهل هذه الصفة {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} صلوات أي رحمة فإن الصلاة من الله الرحمة ورحمة ذكرها الله تأكيدا وجميع الصلوات، أي: رحمة بعد رحمة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} إلى الاسترجاع وقيل إلى الحق والصواب وقيل إلى الجنة والثواب، قال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعمت العلاوة فالعدلان الصلاة والرحمة، والعلاوة الهداية. وقد وردت أخبار في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين منها ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه قال: سمعت أبا الحباب سعيد بن يسار يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يصب منه". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن محمد أخبرنا عبد الملك بن عمرو أخبرنا زهير بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أنا محمد بن عبيد أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ادع الله لي أن يشفيني قال "إن شئت دعوت الله أن يشفيك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك" قالت: بل أصبر ولا حساب علي. أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن أبي نزار أخبرنا أبو منصور العباس بن الفضل النضروي أخبرنا أحمد بن نجدة أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحماني أخبرنا حماد بن زيد عن عاصم هو ابن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشد الناس بلاء قال: "الأنبياء والأمثل فالأمثل يبتلي الله الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا ابتلي على قدر ذلك وإن كان في دينه رقة هون عليه فما يزال كذلك حتى يمشي على الأرض وما له من ذنب" أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن عظم الجزاء عند الله مع عظم البلاء فإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط" أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة" أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد" أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجب للمؤمن إن أصابه خير حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر. فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته".
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}. قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الصفا جمع صفاة وهي الصخرة الصلبة الملساء، يقال: صفاة وصفا، مثل: حصاة وحصى ونواة ونوى، والمروة: الحجر الرخو، وجمعها مروات، وجمع الكثير مرو، مثل تمرة وتمرات وتمر. وإنما عنى بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي المسعى، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام، وشعائر الله أعلام دينه، أصلها من الإشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة وكل ما كان معلما لقربان يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة ودعاء وذبيحة فهو شعيرة فالمطاف والموقف والنحر كلها شعائر الله ومثلها المشاعر، والمراد بالشعائر هاهنا: المناسك التي جعلها الله أعلاما لطاعته، فالصفا والمروة منها حتى يطاف بهما جميعا {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} فالحج في اللغة: القصد، والعمرة: الزيارة، وفي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أي لا إثم عليه، وأصله من جنح أي مال عن القصد {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي يدور بهما، واصله يتطوف أدغمت التاء في الطاء. وسبب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان أساف ونائلة، وكان أساف على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما للصنمين ويتمسحون بهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين فأذن الله فيه وأخبر أنه من شعائر الله. واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول ابن عمر وجابر وعائشة وبه قال الحسن وإليه ذهب مالك والشافعي وذهب قوم إلى أنه تطوع وهو قول ابن عباس وبه قال ابن سيرين ومجاهد وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال الثوري وأصحاب الرأي على من تركه دم. واحتج من أوجبه بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الله بن مؤمل العائذي عن عمرو بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة- اسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار- قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي". أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قول الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فما أرى على أحد شيئا ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول كانت "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما" إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. قال عاصم: قلت لأنس بن مالك أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم، لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا يقول "نبدأ بما بدأ الله تعالى به" فبدأ بالصفا. وقال كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك. وقال: كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي يسعى حتى يخرج منه. قال مجاهد:- رحمه الله- حج موسى عليه السلام على جمل أحمر وعليه عباءتان قطوانيتان، فطاف البيت ثم صعد الصفا ودعا ثم هبط إلى السعي وهو يلبي فيقول لبيك اللهم لبيك. فقال الله تعالى لبيك عبدي وأنا معك فخر موسى عليه السلام ساجدا. قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} قرأ حمزة والكسائي بالياء وتشديد الطاء وجزم العين وكذلك الثانية "فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا" (184- البقرة) بمعنى يتطوع ووافق يعقوب في الأولى وقرأ الباقون بالتاء وفتح العين في الماضي وقال مجاهد: معناه فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة. وقال مقاتل والكلبي: فمن تطوع: أي زاد في الطواف بعد الواجب. وقيل من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه وقال الحسن وغيره: أراد سائر الأعمال يعني فعل غير المفترض عليه من زكاة وصلاة وطواف وغيرها من أنواع الطاعات {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} مجاز لعبده بعمله {عَلِيمٌ} بنيته. والشكر من الله تعالى أن يعطي لعبده فوق ما يستحق. يشكر اليسير ويعطي الكثير.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} نزلت في علماء اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغيرهما من الأحكام التي كانت في التوراة {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} وأصل اللعن الطرد والبعد {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهم العنهم. واختلفوا في هؤلاء اللاعنين، قال ابن عباس: جميع الخلائق إلا الجن والإنس. وقال قتادة: هم الملائكة وقال عطاء: الجن والإنس وقال الحسن: جميع عباد الله. قال ابن مسعود: ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة على اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وقال مجاهد: اللاعنون البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وقالت هذا من شؤم ذنوب بني آدم ثم استثنى فقال: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} من الكفر {وَأَصْلَحُوا} أسلموا وأصلحوا الأعمال فيما بينهم وبين ربهم {وَبَيَّنُوا} ما كتموا {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم {وَأَنَا التَّوَّابُ} الرجاع بقلوب عبادي المنصرفة عني إلي {الرَّحِيمُ} بهم بعد إقبالهم علي.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ} أي لعنة الملائكة {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} قال أبو العالية: هذايوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس فإن قيل فقد قال {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} والملعون هو من جملة الناس فكيف يلعن نفسه؟ قيل يلعن نفسه في القيامة قال الله تعالى: "ويلعن بعضكم بعضا" (25- العنكبوت) وقيل إنهم يلعنون الظالمين والكافرين ومن يلعن الظالمين والكافرين وهو منهم فقد لعن نفسه {خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين في اللعنة وقيل في النار {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} لا يمهلون ولا يؤجلون وقال أبو العالية: لا ينظرون فيعتذروا كقوله تعالى "ولا يؤذن لهم فيعتذرون" (36- المرسلات). قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فأنزل الله تعالى هذه الآية وسورة الإخلاص والواحد الذي لا نظير له ولا شريك له. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا بكر بن إبراهيم وأبو عاصم عن عبد الله بن أبي زياد عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم" {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} و{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. قال أبو الضحى لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن محمدا يقول إن إلهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان من الصادقين فأنزل الله عز وجل:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} ذكر السماوات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد لأن كل سماء ليست من جنس واحد بل من جنس آخر، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب، فالآية في السماوات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة وما ترى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآية في الأرض مدها وبسطها وسعتها وما ترى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات. قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي بعده نظيره قوله تعالى: "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة" (62- الفرقان) قال عطاء: أراد اختلافهما في النور والظلمة والزيادة والنقصان. والليل جمع ليلة، والليالي جمع الجمع. والنهار جمعه نهر وقدم الليل على النهار في الذكر لأنه أقدم منه قال الله تعالى {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} (37- يس). {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} يعني السفن واحده وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع يؤنث وفي الواحد يذكر قال الله تعالى: في الواحد والتذكير "إذ أبق إلى الفلك المشحون" (140- الصافات) وقال في الجمع والتأنيث "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة" (22- يونس). {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} الآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة لا ترسب تحت الماء {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} يعني المطر قيل: أراد بالسماء السحاب، يخلق الله الماء في السحاب ثم من السحاب ينزل وقيل أراد به السماء المعروفة يخلق الله تعالى الماء في السماء ثم ينزل من السماء إلى السحاب ثم من السحاب ينزل إلى الأرض {فَأَحْيَا بِهِ} أي بالماء {الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي بعد يبوستها وجدوبتها {وَبَثَّ فِيهَا} أي فرق فيها {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}. قرأ حمزة والكسائي الريح بغير ألف وقرأ الباقون بالألف وكل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولا لام اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا في الذاريات "الريح العقيم" (41- الذاريات) اتفقوا على توحيدها وفي الحرف الأول من سورة الروم "الرياح مبشرات" (46- الروم) اتفقوا على جمعها، وقرأ أبو جعفر سائرها على الجمع، والقراء مختلفون فيها، والريح يذكر ويؤنث، وتصريفها أنها تتصرف إلى الجنوب والشمال والقبول والدبور والنكباء. وقيل: تصريفها أنها تارة تكون لينا وتارة تكون عاصفا وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة قال ابن عباس: أعظم جنود الله الريح والماء وسميت الريح ريحا لأنها تريح النفوس قال شريح القاضي: ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح والبشارة في ثلاث من الرياح في الصبا والشمال والجنوب أما الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها وقيل الرياح ثمانية: أربعة للرحمة وأربعة للعذاب. فأما التي للرحمة المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات وأما التي للعذاب فالعقيم والصرصر في البر والعاصف والقاصف في البحر {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} أي الغيم المذلل سمي سحابا لأنه ينسحب أي يسير في سرعة كأنه يسحب أي يجر {بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقا وصانعا قال وهب بن منبه: ثلاثة لا يدرى من أين تجيء الرعد والبرق والسحاب.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} أي أصناما يعبدونها {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله، وقال الزجاج: يحبون الأصنام كما يحبون الله لأنهم أشركوها مع الله فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أي أثبت وأدوم على حبه لأنهم لا يختارون على الله ما سواه والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني قال قتادة: إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (65- العنكبوت) والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء والشدة والرخاء. قال سعيد بن جبير: إن الله عز وجل يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام، ثم يقول للمؤمنين وهم بين أيدي الكفار: "إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم" فيقتحمون فيها فينادي مناد من تحت العرش {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وقيل إنما قال {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} لأن الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم قال الله تعالى: "يحبهم ويحبونه" (54- المائدة). قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قرأ نافع وابن عامر ويعقوب ولو ترى بالتاء وقرأ الآخرون بالياء وجواب لو هاهنا محذوف ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى "ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به" الرعد- 31) يعني لكان هذا القرآن فمن قرأ بالتاء معناه ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم في شدة العذاب لرأيت أمرا عظيما، قيل: معناه قل يا محمد: أيها الظالم لو ترى الذين ظلموا أو أشركوا في شدة العقاب لرأيت أمرا فظيعا، ومن قرأ بالياء معناه ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب أي لو رأوا شدة عذاب الله وعقوبته حين يرون العذاب لعرفوا مضرة الكفر وأن ما اتخذوا من الأصنام لا ينفعهم. قوله تعالى: {إِذْ يَرَوْنَ} قرأ ابن عامر بضم الياء والباقون بفتحها {الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} أي بأن القوة لله جميعا معناه لرأوا وأيقنوا أن القوة لله جميعا. وقرأ أبو جعفر ويعقوب إن القوة وإن الله بكسر الألف على الاستئناف والكلام تام عند قوله {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} مع إضمار الجواب
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} هذا في يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض، هذا قول أكثر المفسرين، وقال السدي: هم الشياطين يتبرأون من الإنس {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ} أي عنهم {الأسْبَاب} أي الصلات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصداقات وصارت مخالتهم عداوة، وقال ابن جريج: الأرحام كما قال الله تعالى: "فلا أنساب بينهم يومئذ" (101- المؤمنون) وقال السدي: يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا كما قال الله تعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" (23- الفرقان). وأصل السبب ما يوصل به إلى الشيء من ذريعة أو قرابة أو مودة ومنة يقال للحبل سبب وللطريق سبب. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} يعني الأتباع {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي رجعة إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي من المتبوعين {كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} اليوم {كَذَلِك} أي كما أراهم العذاب كذلك {يُرِيهِمُ اللَّهُ} وقيل كتبرئ بعضهم من بعض يريهم الله {أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} ندامات {عَلَيْهِمْ} جمع حسرة قيل يريهم الله ما ارتكبوا من السيئات فيتحسرون لِمَ عملوا، وقيل يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها وقال ابن كيسان: إنهم أشركوا بالله الأوثان رجاء أن تقربهم إلى الله عز وجل، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا. قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون ويتحسرون {وَمَاهُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169)}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا} نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فالحلال ما أحله الشرع طيبا، قيل: ما يستطاب ويستلذ، والمسلم يستطيب الحلال ويعاف الحرام، وقيل الطيب الطاهر {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها وخطوات الشيطان آثاره وزلاته، وقيل هي النذر في المعاصي. وقال أبو عبيدة: هي المحقرات من الذنوب. وقال الزجاج: طرقه {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} بين العداوة وقيل مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة. وأبان يكون لازما ومتعديا ثم ذكر عداوته فقال: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} أي بالإثم وأصل السوء ما يسوء صاحبه وهو مصدر ساء يسوء سوأ ومساءة أي أحزنه، وسوأته فساء أي حزنته فحزن {وَالْفَحْشَاء} المعاصي وما قبح من القول والفعل وهو مصدر كالسراء والضراء. روى باذان عن ابن عباس قال: الفحشاء من المعاصي ما يجب فيه الحد والسوء من الذنوب ما لا حد فيه. وقال السدي: هي الزنا وقيل هي البخل {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} تحريم الحرث والأنعام.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)}. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قيل هذه قصة مستأنفة والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور. روي عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أي ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا خيرا وأعلم منا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل الآية متصلة بما قبلها وهي نازلة في مشركي العرب وكفار قريش والهاء والميم عائدة إلى قوله "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا" (165- البقرة) {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} أي ما وجدنا {عَلَيْهِ آبَاءَنَا} عبادة الأصنام، وقيل معناه: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرموه على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة. والهاء والميم عائدة إلى الناس في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا} {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ} قرأ الكسائي: بل نتبع بإدغام اللام في النون. وكذلك يدغم لام هل وبل في التاء والثاء والزاي والسين والصاد والطاء والظاء ووافق حمزة في التاء والثاء والسين {مَا أَلْفَيْنَا} ما وجدنا {عَلَيْهِ آبَاءَنَا} التحريم والتحليل. قال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهم {لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} والواو في "أولو" واو العطف، ويقال لها واو التعجب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ والمعنى أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالا لا يعقلون شيئا، لفظه عام ومعناه الخصوص. أي لا يعقلون شيئا من أمور الدين لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا {وَلا يَهْتَدُونَ} ثم ضرب الله مثلا فقال جل ذكره: {ومثل الذين كفروا كمثل الذين ينعق بما لا يسمع} والنعيق والنعق صوت الراعي بالغنم معناه مثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم، وقيل مثل واعظ الكفار وداعيهم معهم كمثل الراعي ينعق بالغنم وهي لا تسمع {إِلا دُعَاءً} صوتا {ونداء} فأضاف المثل إلى الذين كفروا لدلالة الكلام عليه كما في قوله تعالى "واسأل القرية" (82- يوسف) معناه كما أن البهائم تسمع صوت الراعي ولا تفهم ولا تعقل ما يقال لها، كذلك الكافر لا ينتفع بوعظك إنما يسمع صوتك. وقيل: معناه: ومثل الذين كفروا في قلة عقلهم وفهمهم عن الله وعن رسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي إلا الصوت فيكون المعنى للمنعوق به والكلام خارج عن الناعق وهو فاش في كلام العرب يفعلون ذلك ويقبلون الكلام لإيضاح المعنى عندهم، يقولون فلان يخافك كخوف الأسد، أي كخوفه من الأسد. وقال تعالى "ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة" (76- القصص) وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح وقيل معناه مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في غناء من الدعاء والنداء، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة وعبادتها إلا العناء والبلاء كما قال تعالى "إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم" (14- فاطر). وقيل معنى الآية ومثل الذين كفروا في دعاء الأوثان كمثل الذي يصيح في جوف الجبال فيسمع صوتا يقال له: الصدى لا يفهم منه شيئا، فمعنى الآية كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاء ونداء {صم} تقول العرب لمن لا يسمع ولا يعقل: كأنه أصم {بكم} عن الخير لا يقولونه {عمي} عن الهدى لا يبصرونه {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} حلالات {مَا رَزَقْنَاكُمْ}. أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا" (51- المؤمنون) وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك". {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} على نعمه {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ثم بين المحرمات فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} قرأ أبو جعفر الميتة في كل القرآن بالتشديد والباقون يشددون البعض. والميتة كل ما لم تدرك ذكاته مما يذبح {والدم} أراد به الدم الجاري يدل عليه قوله تعالى "أو دما مسفوحا" (145- الأنعام) واستثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال فأحلها. أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان، الميتتان الحوت والجراد، والدمان، أحسبه قال: الكبد والطحال" {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} أراد به جميع أجزائه فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي ما ذبح للأصنام والطواغيت، وأصل الإهلال رفع الصوت. وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل. وقال الربيع بن أنس وغيره {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قال ما ذكر عليه اسم غير الله. {فَمَنِ اضْطُرَّ} بكسر النون وأخواته عاصم وحمزة، ووافق أبو عمرو إلا في اللام والواو مثل "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" (110- الإسراء) ويعقوب إلا في الواو، ووافق ابن عامر في التنوين، والباقون كلهم بالضم، فمن كسر قال: لأن الجزم يحرك إلى الكسر، ومن ضم فلضمة أول الفعل نقل حركتها إلى ما قبلها، وأبو جعفر بكسر الطاء ومعناه فمن اضطر إلى أكل ميتة أي أحوج وألجئ إليه {غير} نصب على الحال، وقيل على الاستثناء وإذا رأيت {غير} يصلح في موضعها {لا} فهي حال، وإذا صلح في موضعها {إلا} فهي استثناء {بَاغٍ وَلا عَادٍ} أصل البغي قصد الفساد، يقال بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترامى إلى الفساد، وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال عدا عليه عدوا وعدوانا إذا ظلم واختلفوا في معنى قوله {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فقال بعضهم {غَيْرَ بَاغٍ} أي: خارج على السلطان، ولا عاد: معتد عاص بسفره، بأن خرج لقطع الطريق أو لفساد في الأرض. وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير. وقالوا لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا أن يترخص برخص المسافر حتى يتوب، وبه قال الشافعي رحمه الله: لأن إباحته له إعانة له على فساده، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل واختلفوا في تفصيله. فقال الحسن وقتادة {غَيْرَ بَاغٍ} لا تأكله من غير اضطرار {وَلا عَادٍ} أي لا يعدو لشبعه. وقيل {غَيْرَ بَاغٍ} أي غير طالبها وهو يجد غيرها {وَلا عَادٍ} أي غير متعد ما حد له فما يأكل حتى يشبع ولكن يأكل منها قوتا مقدار ما يمسك رمقه. وقال مقاتل بن حيان {غَيْرَ بَاغٍ} أي مستحل لها {وَلا عَادٍ} أي متزود منها. وقيل {غَيْرَ بَاغٍ} أي غير مجاوز للقدر الذي أحل له {وَلا عَادٍ} أي لا يقصر فيما أبيح له فيدعه قال مسروق: من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار. واختلف العلماء في مقدار ما يحل للمضطر أكله من الميتة، فقال بعضهم مقدار ما يسد رمقه. وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وأحد قولي الشافعي رضي الله عنه. والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك رحمه الله تعالى. وقال سهل بن عبد الله {غَيْرَ بَاغٍ} مفارق للجماعة {وَلا عَادٍ} مبتدع مخالف للسنة ولم يرخص للمبتدع في تناول المحرم عند الضرورة {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي فلا حرج عليه في أكلها {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن أكل في حال الاضطرار {رَحِيمٌ} حيث رخص للعباد في ذلك.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} "نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم، فلما نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتبعوه" فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي بالمكتوم {ثَمَنًا قَلِيلا} أي عوضا يسيرا يعني المآكل التي يصيبونها من سفلتهم {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} يعني إلا ما يؤديهم إلى النار وهو الرشوة والحرام وثمن الدين، فلما كان يفضي ذلك بهم إلى النار فكأنهم أكلوا النار وقيل معناه أنه يصير نارا في بطونهم {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ. وقيل: أراد به أنه يكون عليهم غضبان، كما يقال: فلان لا يكلم فلانا إذا كان عليه غضبان {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يطهرهم من دنس الذنوب {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}. {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قال عطاء والسدي: هو ما: استفهام معناه ما الذي صبرهم على النار وأي شيء يصبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وقال الحسن وقتادة: والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار قال الكسائي: فما أصبرهم على عمل أهل النار أي ما أدومهم عليه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يعني ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق فأنكروه وكفروا به وحينئذ يكون ذلك في محل الرفع وقال بعضهم محله نصب معناه فعلنا ذلك بهم بأن الله أي لأن الله نزل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه وقيل معناه ذلك أي فعلهم الذي يفعلون من الكفر والاختلاف والاجتراء على الله من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق وهو قوله تعالى "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم" (7- البقرة) {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} فآمنوا ببعض وكفروا ببعض {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي في خلاف وضلال بعيد. قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} قرأ حمزة وحفص: ليس البر بنصب الراء، والباقون برفعها، فمن رفعها جعل {الْبِر} اسم ليس، وخبره قوله: أن تولوا، تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم. كقوله تعالى "ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا" (25- الجاثية). والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية، فقال قوم: عنى بها اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق، وزعم كل فريق منهم: أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان. وقال الآخرون: المراد بها المؤمنون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة. ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وحددت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزل الله هذه الآية فقال: {لَيْسَ الْبِرَّ} أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} قرأ نافع وابن عامر ولكن خفيفة النون البر رفع وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر. قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} جعل من وهي اسم خبر للبر وهو فعل ولا يقال البر زيد واختلفوا في وجهه قيل لما وقع من في موضع المصدر جعله خبرا للبر كأنه قال ولكن البر الإيمان بالله والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل وأنشد الفراء: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى *** ولكنما الفتيان كل فتى ندي فجعل نبات اللحى خبرا للفتى وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن بالله فاستغنى بذكر الأول عن الثاني كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله كقوله تعالى: "هم درجات عند الله" (163- آل عمران) أي ذو درجات وقيل معناه ولكن البار من آمن بالله كقوله تعالى "والعاقبة للتقوى" (132- طه) أي للمتقي والمراد من البر هاهنا الإيمان والتقوى. {وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ} {وَالْكِتَاب} يعني الكتب المنزلة {وَالنَّبِيِّينَ} أجمع {وَآتَى الْمَالَ} أعطى المال {عَلَى حُبِّهِ} اختلفوا في هذه الكناية فقال أكثر أهل التفسير: إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال قال ابن مسعود: أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد ثنا عمارة بن القعقاع أنا أبو زرعة أخبرنا أبو هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان". وقيل هي عائدة على الله عز وجل أي على حب الله تعالى. {ذَوِي الْقُرْبَى} أهل القرابة. أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا قتيبة أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سلمان بن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة". قوله تعالى: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} قال مجاهد: يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق، وقيل: هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" {وَالسَّائِلِين} يعني الطالبين. أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي بجيد الأنصاري وهو عبد الرحمن بن بجيد عن جدته وهي أم بجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ردوا السائل ولو بظلف محرق" وفي رواية قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجدي شيئا إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه" قوله تعالى {وَفِي الرِّقَابِ} يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين، وقيل: عتق النسمة وفك الرقبة وقيل: فداء الأسارى {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} وأعطى الزكاة {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس {إِذَا عَاهَدُوا} يعني إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا أوفوا، وإذا عاهدوا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدوا، واختلفوا في رفع قوله والموفون قيل هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل تقديره: وهم الموفون كأنه عد أصنافا ثم قال: هم والموفون كذا، وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال {وَالصَّابِرِينَ} وفي نصبها أربعة أوجه: قال أبو عبيدة: نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ومثله في سورة النساء "والمقيمين الصلاة" سورةالمائدة- 162) {والصابئون والنصارى}، وقيل معناه أعني الصابرين، وقيل نصبه نسقا على قوله ذوي القربى أي وآتى الصابرين. وقال الخليل: نصب على المدح والعرب تنصب الكلام على المدح والذم كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه فالمدح كقوله تعالى "والمقيمين الصلاة" (162- النساء). والذم كقوله تعالى "ملعونين أينما ثقفوا" (61- الأحزاب). قوله تعالى {فِي الْبَأْسَاءِ} أي الشدة والفقر {وَالضَّرَّاء} المرض والزمانة {وَحِينَ الْبَأْسِ} أي القتال والحرب. أخبرنا المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا زهير عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. يعني إذا اشتد الحرب {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانهم {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
|